لم أعُد أعلم من أنتَ.. منذ تلك اللحظة التي جلسنا فيها سوياً نتحدث.. لم يكن حديثاً عادياً.. بل كان توغُّلاً في أعماق كُلَّاً منّا داخل الآخر.. رأينا ما لم نُري أحداً من قبل..
أتذكر تفاصيل ملامحنا ونحن نتحدّث، أتذكر تفاصيل كل صوت وصدى كل كلمة.. لا، لم يكُن حديثاً عادياً..
انتهينا يومها، ورجعنا مُسرعين إلى كهوف أرواحنا، انزوينا في الركن البعيد الهادئ المُظلم، تلك المساحة التي نجد فيها الراحة والعزلة عمّا نؤمن أنّه يمكن أن يؤلمنا..
وتجدد اللقاء؛ بعد ثلاثة أشهر.. أحسسنا بتوقد الشوق إلى الحديث المُريح الذي اختبرناه طوال النصف السنة الماضية؛ أحسسنا بالحنين إلى ذلك الحُضن الذي يربت على قلوبنا المُتعبة.. اشتقنا إلى ذلك الشخص الذي يتوغّل في أعماقنا ويرى حقيقتنا دون أن ننبس بشفة على الرغم من خوفنا منّه..
وتكلّمنا.. وطال حديثنا..
ثم سكتنا وابتعدنا.. وتألّمنا..
ألِهذا ابتعدنا؟! ألِهذا هربنا؟! خِفنا أن يرانا أحد مُجرّدين، ارتعدنا خوفاً وفزعاً أن استطاع كُلّا منا اختراق ذلك الحاجز القلبي الذي نضعه حولنا.. ذلك الحاجز الذي بنيناه بعد تعب وعناء وجروح ودموع ووجع كثير؛ ذلك الحاجز الذي أقسمنا ألا يخترقه أحد وألا نسمح لأحد أن يقترب منّه في الأساس..
فتحنا أبوابه على مصرعيها ولم نُحِس إلا بعدها، أدركنا أننا نكسنا وعدَنا وقَسَمَنا؛ فآثرنا أن ندوس قلوبنا ورغباتنا في الالتحام سوياً بأقدامنا وسحقناها حتى بكت بدل الدموع دماً..
آثرنا الشعور بالألم على أن نفتح قلوبنا مرّة أخرى.. حتى ولو عرفنا داخلنا أنّ ذلك الشخص راحة وسكينة لنفوسنا..
سحقناها ومضينا قدماً.. نتكلّم بدون كلمات، نتحدّث في صمت، نبتعد في صمت، نتألّم في صمت... نرى عزاءنا في كلماتٍ نقرأها من الحين إلى الآخر.. سواءًا لنا أو لمن نرى كِلانا في كتاباته.. يُثلِج نفوسنا، يهدّئ من روعة حسرات قلوبنا..
لم أعد أقوى على الإقتراب منك بعد الآن.. لم أعد أحتمل هذة العودة لأنّي أصبحت على يقين أنّها عودة مؤقتة سُرعان ما تنتهي برحيل مؤلم وابتعاد وصمت أكثر إيلاماً..
هربتُ منك ومن عالمك ومن العالم المُشترك بيننا..
يحثّني الكثيرون على الرجوع، وآخرون ينصحوني بالهروب لفترة.. يقولون أنّ عليَّ استجماع قواي المُبعثرة، واسترداد حكمتي الضائعة، وتضميد جراح روحي المؤلمة..
سأبقى بعيدة، لن آتي.. لن آتي وآخذ الخطوة الأولى كما كنت أفعل دائماً؛ لا، لن أُرهِق قلبي بالاهتمام بك؛ فلقد ضحّى من أجلى بالكثيروحان الوقت كي أهتم به بعد معركته معك..
سأستجمع قواي، واسترد حكمتي وأُضمد جراحي؛ وأمضي إلى غير رجعة..
من يهتم بي، سيعرف كيف يجدني.. أمّا من لا يهتم، فأنا لن أهتم كذلك..
ذلك الهروب.. لا أعلم آسمّيه "هروب" أم "تصحيح مسار"؟!
لا يهم.. المُهم، أنّي سأبتعد.. لعلَّ الله يجعل فيه الشفاء النفسي والسكينة الروحية في محاولتي للرجوع إليه وأنا تلك الأَمَة التي قرّبت منك وبعدت عنّه..
لستُ حزينة منك ولا عليك.. إنّما أُشفِقُ على نفسي.. وألوم عليها أن تركتك تفعل بها ما فعلت.. لا أملك إلا أن أقول سامحك الله.. أراح الله من أراح القلوب، وسامحَ الله من أتعبها..
No comments:
Post a Comment