May 23, 2010

القارب

كانا صديقين حميمين، تربطهما أوصار صداقة عميقة قوية ... لا يفترقان يتشاركان كل شئ سويا ... يلعبان ... يمرحان .. يتحدثان .. يعملان.

كان لديهم ذلك القارب الصغير، فقد كانا يعيشان على شاطئ البحر، كان هذا القارب لهما وحدهما، يقضيان فيه معا أحلى الأوقات ... يذهبان في نزهة في عرض البحر يصطادان السمك و يجلسان يتحدثان بالساعات في كل شئ و عن كل شئ و في آخر اليوم، يعودان ليستمتعا بالأكل سويا ثم يفترقان ليعود كل منهما إلى منزله يحكي لأهله عن يومه السعيد.

ذات يوم، تلاقا الصديقان كما يفعلان كل يوم و توجهوا إلى حيث مركبهم الصغير ... فقد كانوا على موعد مع البحر، يبحران في نزهة ممتعة.

كان يوما رائعا... كان النسيم عليلا و الشمس ساطعة، ترسل أشعتها الذهبية فتملأ الكون دفئا رائعا... تنعكس على سطح المياة الصافية فتكون كاللؤلؤ الذي يبهر أنظار الناظرين....
أخذ الصديقان يضحكان و يتكلمان فترة طويلة مستمتعين بهذا الجو الرائع...

و لكن فجأة حدث ما لم يكن متوقع !!! فقد تغير الجو و تلبد بالغيوم... صار البحر هائجا و هطل المطر غزيرا و أطلق الرعد صوته كصوت أسد يهز يزئيره الغابة بأكملها....

ارتعد الصديقان لهذا المنظر و لم يدركا ماذا يفعلان ...

و بينما كانت الفتاة تحاول أن تجدف بكل ما اوتيت من قوة، وقعت عيناها على منظر مزق قلبها من الحزن ... فقد وجدت صديقها قد ترك مجدافه و تكور في ركن القارب في حالة ذعر و من الخوف الشديد أغمض عينيه و تركها وحدها ... لا يبالي بما تواجه !!!
حاولت الفتاة أن تكلمه و ترجوه أن يساعدها حتى يصلوا إلى بر الأمان و لكن محاولاتها باءت بالفشل !!!!

أسلمت الفتاة أمرها لله و راحت تجدف بالقارب محاولة منها أن تنقذ صديقها و القارب.. تدعو الله بقلب خاشع و هي ضارعة أن ينقذها من هذة الورطة ....

و لكن البحر كان ثائرا و الأمواج متلاطمة تضرب القارب كأنه ريشة في وسط عاصفة هوجاء...

كانت تحاول بكل قوة ... و من آن إلى آخر، تنظر إلى صديقها و تصيح فيه و ترجوه أن يفعل شيئا ليساعدها ... و في لحظة، وجدته قد فتح عينيه، فابتسمت و ملأ الأمل قلبها و لكنه سرعان ما تلاشى، فلم يتحرك قيد أنملة !!!!

لم تستطع أن تصمد أكثر من ذلك، فقد أنهكها التعب و راح مجهودها في الهواء، فلم تفلح !! و جاءت موجة عملاقة ضربت القارب فقسمته إلى قطع صغيرة ... و عندها فقط، تحرك الصديق عندما وجد نفسه في المياة، باحثا عن صديقته... و لكن للأسف، لم يجدها !!! فقد جرفتها المياة بعيدا...

تعلقت الفتاة بقطعة من الخشب المتبقي من القارب المحطم داعية الله سبحانه و تعالى أن يوصلها إلى بر الأمان...

مرت ساعات و هي على تلك الحال، تصلي و تدعو من كل قلبها حتى استجاب الله لدعائها و لاح الأمل فقد أبصرت الشاطئ قريب...
استجمعت قواها و سبحت إلى هناك و عندما وصلت، ارتمت على الشاطئ منهكة القوى لا تقوى على الحراك...

كانت متعبة جسديا و لكن هذا لم يكن يقارن بما كانت تشعر بداخلها ... فقد كان قلبها يدمي و يتحسر على صديقها ... كيف أمكنه أن يفعل ذلك ؟! كيف أمكنه أن يتركها وحدها تواجه كل تلك الأحداث ؟! ألم يتعاهدوا أنهم أصدقاء أوفياء ؟! ألم يكن هو الذي وثقت به أن يكون ذراعها الأيمن و درعها الحامي ؟! ألم يكن هو الذي كانت متأكدة أنه سيكون أول من يساندها وقت الشدة ؟! و لكن أين كل ذلك ؟! فها هو أول من يتخلى عنها ...
لم تستطع أن تفكر ... لم تستطع أن تجد أجوبة ... فقد كانت حالتها أصعب من أن يتحملها أحد.
وجدت نفسها تبكي بحرقة و دموعها تسيل ساخنة عل خديها و لكنها لم تمنعها .... فتركتها تسيل لعلها تطفئ النار التي بداخلها ...
وجدت قلبها محطما.. يقطر دما... يئن حزنا على هذا الصديق ... فقدت الإحساس بالأمان و الثقة!!!

أبصرت شجرة قديمة، فأسندت عليها جسدها المتعب ... فقد أصابها الإرهاق و أنهكها التعب و البكاء ... و لم يمر كثيرا من الوقت حتى راحت في سبات عمييييييييييييييق

لم تدر الفتاة كم من الوقت مر عليها و هي نائمة ... و لكن أيقظتها أصوات الطيور و أشعة الشمس التي أحست أنها لفحت وجهها و أحرقته ... ففتحت عينيها بصعوبة شديدة، فقد كانت لا تزال تشعر بكثير من الإرهاق جراء أحداث الأمس ...

كان الجو صافيا و الشمس مشرقة و هدأ البحر بعد تلك العاصفة العاتية ... كانت العصافير تغرد على الأشجار و كل ما حولها يجعل الإنسان يشعر بالسعادة ... كانت لتبتسم لولا غمامة الحزن التي كانت تخيم على قلبها و تحجب أي إشراقة ابتسامة على شفتيها...

استجمعت قواها لتعود إلى منزلها، فقد كانت تعلم أن والديها يشعرون بالقلق الشديد عليها... و عندما وصلت، لم تستطع الأم أن تكتم دموعها من فرحتها برؤية ابنتها سالمة، و أخذتها هي و أباها في أحضانهما يحمدان الله على رجوعها و على إنقاذها و يخبرونها كم اشتاقوا إليها.

ابتسمت الفتاة ابتسامة رقيقة و لكنها لم تتكلم عما حدث و لم تقل شيئا بل سألت عن صديقها... فطمأنوها أنه قد أنقذه قارب و عاد به إلى بيته سالما ... سكتت الفتاة و لم ترد إلا بكلمة واحدة "الحمد لله"

لاحظ أباها ذلك الحزن العميق في نفسها و الدموع المتلألأة في عينيها بعد ذلك الحديث و لكنه لم يتكلم، فقد كانت ابنته في حالة إعياء شديدة .. فتركها لتستحم و تأكل شيئا و ترتاح.

دخلت الفتاة غرفتها و ألقت نفسها على سريرها و راح عقلها يسترجع كل ما حدث بالأمس.. بأدق التفاصيل ... كل صورة ظهرت أمام عينيها ... كل صوت كان في أذنيها..
تقلبت في الفراش و لكنها لم تستطع النوم... فلقد كانت هذة الأحداث مؤلمة للغاية حتى منعتها منه.

كانت الشمس قد قاربت على المغيب و كانت حالة الفتاة النفسية يرثى لها فعلا ... و لكنها قامت و قررت التخلص من هذا الشعور لأنها تكره أن ترى نفسها في هذة الحالة من الكآبة و الضعف..

دخلت المطبخ و صبت كوبا من الشاي و جلست في الشرفة تنظر إلى الغروب و تستلقي في بعض الهواء المنعش...

كان لتلك الفتاة صديقين آخرين ... فتى و فتاة... كانت تلك الفتاة الأخرى أكثر لها من أخت... تحبها حبا جما، تثق بها ثقة عمياء و ترتاح إليها.. تجدها متى احتاجت إليها، تساعدها كثيرا.. كانت قد تعرفت إليها منذ ثلاث سنوات و أصبحن أكثر من أختين ... حتى أن أم كل واحدة منهن تعتبر الأخرى من العائلة...

أما ذلك الفتى، فكان صديقا لها و لكن ليست صداقة قوية... فقد كانوا زملاء و كان الحديث بينهما لا يتخطى صباح الخير و كيف الحال و التكلم عن الأحوال العامة.

و لكن كان لهذان الشخصان أثرا كبيرا في حياتها بعد ذلك ... أكثر مما كانت هي نفسها تتوقع !!!

كانت الفتاة مستلقية، تنظر إلى السماء و تفكر ... ماذا تفعل؟! فلأول مرة في حياتها تحس بمثل هذا الألم و الضعف و عدم القدرة على التصرف ... كانت في حاجة ماسة إلى أن تتكلم و لكنها لم تكن قادرة على ذلك..

تذكرت صديقتها، فهي الوحيدة التي تتحدث معها بكل حرية، تشكو لها و تحس معها بالأمان و الراحة .. فقررت أن تذهب إليها و تتحدث معها ... استأذنت والديها فسمحوا لها

خرجت الفتاة متجهة إلى منزل صديقتها ... رحبت بها الأم و دعتها إلى كوب من العصير المنعش .. فشكرتها الفتاة و سألت عن صديقتها.. فأخبرتها أنها في الشرفة.

دخلت الفتاة الشرفة و رأتها صديقتها ... و لكن ما أن رأتها حتى راعها منظرها، فقد كانت شاحبة حزينة، فصاحت بها: "ماذا حدث؟!".. فارتمت الفتاة في حضن صديقتها و أخذت تبكي

أخذت صديقتها تهدئ من روعها و ترجوها أن تهدأ و تحكي لها ما حدث لعلها تستطيع أن تساعدها ...
هدأت الفتاة و تناولت كوبا من الماء لتسترخي ... و بدأت تحكي القصة منذ البداية.

جلسا سويا ما يقرب من ثلاث ساعات و الفتاة تتحدث و تحكي كل ما حدث بالتفصيل.. كل ما رأته و سمعته و شعرت به ... و أنهت حديثها قائلة: " لا أعلم ماذا أفعل !! ... إن هذا مؤلم ... أأتخلى عنه بعد كل هذة السنوات من الصداقة الرائعة؟! أم أسامحه و اغفر له و نأمل أن نعود كما كنا؟! لا أعلم ... لا أعلم "

قالت لها صديقتها: "اهدئي و استريحي ... فلن نستطيع أن نتحدث و أنت في هذة الحالة ... هيا، لنتصل بوالديك نستأذنهما أن تبقى عندنا الليلة و سوف يكون لنا حديث طويل"

ثم قاما و اتصلا بوالديها و كان المتحدث والدها ... و لأن كان يشعر بما في ابنته من حزن و بحاجتها إلى صديقتها، وافق ...
و بعد أن انتهيا من المكالمة التليفونية، قامت الأم بتحضير العشاء لهما حتى يجلسان بعد ذلك على راحتهما... كان العشاء لذيذا و لكن الفتاة لم تأكل إلا قدرا بسيطا من الطعام ... فلم تكن بها رغبة في تناول أي طعام...
أخذتها صديقتها بعد العشاء لتروح عنها و يتحدثان ...

قالت لها صديقتها: " ربما صديقك لم يدر ماذا يفعل في هذة اللحظة، فلكل أنسان لحظة ضعف يمر بها" .. ردت الفتاة: " و لكننا كنا في ورطة و لم أكن أستطيع أن أقف في وجهها وحدي!!! ألم يستطع أن يتغلب على خوفه ؟! "

دار الحديث، و أدركت الصديقة كم كانت صديقتها مجروحة و قلبها مكسور ... و كم أثّر في نفسها موقف هذا الصديق، فقد كان جد غاليا عليها... فأنهت حديثها بهذا السؤال: " إذا، فلترتاحي من هذا العناء و لا تفتحي هذا الموضوع مع نفسك ثانية ... و لكن إذا جاء و اعتذر لك، فهل تعودين كما كنت؟! كما كنتما أصدقاء مثل الماضي؟!"

سكتت الفناة و لم ترد... لأنها كانت تعرف أن إجابة هذا السؤال تحتاج إلى تفكير عميق ... فالصداقة بينها و بين ذلك الفتى كانت قوية و لن تستطيع أن تجيب عن هذا السؤال بهذة السهولة.

أدركت صديقتها ما يدور في ذهنها فصمتت... و حولت الحديث إلى شئ آخر حتى تشتت انتباه صديقتها عن هذا الموضوع.

مرت ثلاثة أيام على هذة الحادثة، و كانت الفتاة قد بدأت تهدأ لكن جراحها لم تكن قد شفيت بعد..

بعد الإفطار ذات صباح، نزلت إلى الشاطئ تتمشى قليلا، تشم بعض الهواء النقي... فالتقت صدفة بذلك الفتى الذي لم يكن صديقها المقرب، فقال لها: "صباح الخير" فردت: "صباح الخير" و بدأ حديثا ينشأ بينهما كالعادة عن الحياة العامة و أحوالها...
لاحظ الفتى أنها حزينة، فسألها: " ما بك؟! لماذا أنت حزينة هكذا؟!" نظرت الفتاة إليه مستغربة، فلم تكن تعلم أن الحزن مازال واضحا على وجهها فلقد كانت تحاول جاهدة أن تخفيه و لكن يبدو أنها لم تفلح!!! فردت عليه: " أنا متضايقة بعض الشئ ... فقد حدث لي شيئا أثر في كثيرا و أحزنني" فابتسم لها و قال: "إذا أردت، فلتحكي لي.. فلعلي أخفف عنك و أساعدك"

لم تكن الفتاة قبل ذلك تتكلم معه كثيرا... و لكنها وجدت نفسها تتحدث معه بكل تلقائية و حكت له ما حدث و كأن الحديث يريحها و يثلج قلبها..
و قد كان الفتى يستمع إليها بكل انتباه و اهتمام و إنصات و يرد عليها بكل بساطة و وضوح في كلمات بسيطة معبرة، ينصحها و يرشدها فقد تبين لها أنه على خبرة كبيرة في التعامل مع الناس ... و تعجبت كثيرا كيف أنها لم تلاحظ أنه شخص رائع حقا... شكرته كثيرا على حديثه معها و على نصائحه ... فرد مبتسما: " لا شكر على واجب ... و أنا هنا متى احتجت إلى صديق"

شعرت الفتاة بالسعادة لأول مرة منذ كل تلك الأحداث .. و وعدته بأنها سوف تفعل ... و افترفا بعد أن أصبحا صديقين عزيزين ...

و توالت الأحداث و الأيام، و كان الفتى يثبت يوما بعد يوم أنه من أوفى الأصدقاء ... فقد مرت بصعوبات كثيرة في هذة الفترة لتتخلص من حزنها و واجهت بعض المشاكل و لكنه كان في كل مرة يثبت أنه من أصدقائها الأوفياء و أنه لن يتخلى عنها مهما حدث.
و لم يعد للفتاة حديث عندما يتحدثون عن الأصدقاء سوى هذا الفتى و صديقتها المقربة... فثقتها في هذين الاثنين كانت تفوق الحدود و كانت تحمد الله كل ليلة بعد صلاتها على منحها هذين الصديقين الرائعين تعويضا عما فقدته في حياتها

و ذات يوم، جاءها صديقها القديم، كان قد شعر بغلطته و بما فعل في حق صديقته ... و أحس بالذنب الشديد فجاء يعتذر لها و يرجوها أن تسامحه...

تذكرت في تلك اللحظة سؤال صديقتها تلك الليلة ... و صمتت قليلا تفكر ...

لو أنه جاء منذ بضع أيام، لما كانت سامحته قط ... و لكنها ابتسمت فى وجهه و قالت: "ما فات قد مات، سامحتك يا صديقي"
سامحته بالفعل و لكن علامة الجرح لا تزال موجودة ... سامحته و لكنها كانت لا تزال تشعر بالألم ... سامحته لأنه عزيزا عليها و لا تريد أن تخسر صداقته ...عادا صديقين و لكن ليس كما كانا من قبل لا يفترقان ... و لكنهما لم ينقطعوا و ظلوا على وفاق و اتصال.

أما هي، فقد كانت سعيدة ... سعيدة بصديقها الجديد و صديقتها الصدوقة... فهما يملأن عليها حياتها فرحة و بهجة و يقفون معها في السراء و الضراء ... و شعرت بما تعنيه كلمة " الصديق الوفي"
عادت الابتسامة إلى شفتيها و عاد الفرح يملأ قلبها و حياتها ... تعود كل يوم إلى فراشها سعيدة تصلي و تدعو لهما ...

دخل عليها أباها ذات يوم ليلا ليطمئن عليها، فوجدها نائمة كالملائكة تغطي السعادة وجهها... فترقرقت من عينيه دمعتان لرؤية ابنته سعيدة بعد أن كان يراها تعيسة حزينة منذ فترة.

قبلها على جبينها .. و انساب بخفة حتى لا يوقظها .. و تركها تنام في سعادة و هناء.

No comments:

Post a Comment